قصة حقيقية
كتب الراهب بطرس المقاري هذه الكلمات قبل أن يتنيح في 22 مارس 1995 وقال :
طرق بابي زائر فوجدته ملاك الموت الذي جاء ليأخذ روحي فاستمهلته قليلا حتى أكتب هذه الكلمات ، الواقع إن ساعة الموت رهيبة و مقدار رهبتها يتزايد مع مقدار الإهمال في الاستعداد لها. فالذي يستعد لها ويضعها أمام عينيه و يجاهد كل يوم تصير لحظة فرح و مسرة.
لقد نظرت حولي في القلاية ، ثم من النافذة فلم أجد في الدنيا كلها ما يستحق أن آخذه معي ، لا غني ولا كرامة ولا إهانة ولا مديح و لا شتائم ولم يسمح لي بأخذ شئ ماعدا ثوبي الذي عمره من عمري و قد كان أبيضا ولكنه اتسخ ببقع كثيرة.
و في لحظة شعرت أن روحي تضيق جدا كأنها تخرج من عنق الزجاجة إلي اتساع لا نهائي ، وخرجت إلي عالم آخر لا يحده زمان أو مكان.
و هنا استوقفني ملاك الموت معلنا مرحلة العبور الصعب و تلفت حولي فإذا بجماعة من الشياطين بمنظرها القبيح المرعب شاخصة نحوي و رأيت في المقابل جماعة أخرى منيرة من الملائكة تسبح بأناشيد عذبة تلقي في القلب سلاما ، و كان يبدو عليها الاطمئنان أما جماعة الشياطين ، عندما تفرست في وجوههم ، فوجدتني أعرف أغلبهم بل إن بعضها كان رفيقا لي لفترة من الزمن ، فهذا الكبرياء و هذا كذب و ذاك إدانة و نميمة ...... و وجدتهم يشيرون إلي البقع التي في ثوبي ، فنظرت لهذه البقع فوجدتها صور لهولاء الشياطين ، فار تعبت جدا وسألت الملاك عن الشياطين الذين لا أعرفهم ، فأفهمني الملاك إنني لم أستمع إلي أصواتهم و سددت أذني على سماع كلامهم بمشورة الروح القدس أو أنني استمعت لهم ثم قدمت توبة صادقة فمحيت صورتهم من ثوبي.
فنظرت للملائكة التمس منهم سلاما فعرفت منهم ملاك المحبة و البساطة والوداعة و السلام و الاتضاع و كل منهم يحمل باقة من الفضائل و الأعمال الصالحة.
وإذا بملاك الموت يتقدم و يبوق ، فرأيت ناحية المشرق بابا يؤدي إلي منطقة منيرة جدا أحسست بلهفة شديدة على دخولها وناحية المغرب منطقة أخري مظلمة جدا أوقعت الرعب في قلبي فأسرعت نحو المشرق و لكن ملاكان منعاني من الدخول مشيران إلي البقع التي تلطخ ثوبي قائلان الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله و هناك دين لم أوفه ، وعلي أن أذهب إلي باب المغرب.... و فعلا شعرت بمجال شديد يجذبني إلي هناك فصرخت هلعا ، ولكن الملاك أفهمني أن زمان التوبة قد مضي ، فندمت أشد الندم على تلويثي لثوبي و صمتت الملائكة بحزن شديد ولاحت علامات الانتصار على وجوه الشياطين و أخذت في البكاء والعويل.
و إذا بنور عظيم و بريق لامع و شخص كأنه لهيب نار لا أستطيع أن أعبر عن شدة جماله وروعته محاط بربوات الملائكة والقديسين ، فعرفته في الحال ، و سجدت له و رفعت عيني طالبا معونة.
نعم لقد شعرت إني كنت أعرفه منذ زمان و ذقته كثيرا واختبرت معونته و يده الرحيمة بل كانت صورته في قلبي و يا للعجب فقد وجدت إني أشبهه و صورته تنطبق علي ما عدا ثوبي المتسخ ، أما صورته فقد أخذتها يوم ولدت منه في المعمودية ، إنه الأبرع جمالا من بني البشر ، إنه مشتهي قلبي و كل رجائي ، هذه اللحظة التي عشت حياتي أنتظرها ، هذا من آمنت به ووثقت فيه ، إنه لن يتركني أبدا ، الذي سلمته كل حياتي ، هذا محبوبي الذي ناديته و رنمت له.
و ما أن مد يده حولي حتى رأيت في كفه آثار جرح عميق و يا للعجب إنه مازال ينزف و سقطت نقطة من هذا الجرح نقطة واحدة من دم إلهي ، سقطت على ثوبي فمحت منه كل خطية ، وهنا دوت صرخة هائلة من رئيس الشياطين فقد سقطت كل جماعته في الهوة السحيقة.
أما أنا فقد ألبسني ربي ثوبا ناصع البياض و رأيت ما لم تراه عين و انفتح باب المشرق و سمعت ترانيم الخلاص وأردت أن أكتب ما أراه لكني وجدت لغة البشر عاجزة عن التعبير.
و رأيت جماعة القديسين ورأيت امرأة جميلة ثوبها يلمع جدا كأنه موشى بالذهب لشدة تطابق حياتها مع طبيعة المسيح ورأيتها في حنان الأمومة تعطي كل من يسألها على الأرض ثوب بر المسيح ورأيت جماعة تتميز بتاج لامع عرفت منهم مارجرجس و القديسة دميانة و كثيرين ممن لم أسمع سيرتهم على الأرض لكن أسماءهم مكتوبة في السموات و تفوح منهم رائحة المسيح الذكية ، هؤلاء الذين نالوا إكليل الشهادة ورأيت جماعة من النساك بأجسادهم النورانية والكل يسبح و يرنم وشعرت إني لست أهلا أن أكون في هذا الموضع و اشترك مع السمائيين في التسبحة ، وفهمت إني لم أكمل جهادي بعد ، ومازلت في الجسد ، لكن اشتياقي و حنيني للسماء كان قد التهب و توهج ، فصممت أن أبدا غسل ثوبي في دم الخروف استعداد لهذا اليوم الرهيب.
هؤلاء هم الذين اتوا من الضيقة العظيمة و قد غسلوا ثيابهم و بيضوا ثيابهم في دم الخروف من اجل ذلك هم امام عرش الله ( رؤ 7 : 14 )