ثانيًا: دعاه إشعياء النبي
"الصوت الصارخ في البرية"، فان كان قد جاء كملاك رحمة يكشف لنا عن المخلص وينير أذهاننا لمعرفة حمل الله، فهو أيضًا الأسد الذي يزأر بصوته المرعب في برية قلوبنا القاحلة حتى لا نعتذر بعدم سماعنا كرازته. كملاك يهيئ قلوبنا لحلول حمل الله المصلوب فينا، وكصوت صارخ يهز أعماقنا القاحلة لتترقب باشتياق عمل الله الخلاصي.
يميز
القديس كيرلس الكبير بين السيد المسيح الكلمة وبين سابقه يوحنا الصوت، فيرى الأول كالشمس الساطعة التي يسبقها كوكب الصبح المنير، إذ يقول: [كان إشعياء على علم بعمل يوحنا التبشيري، فبينما يسمي إشعياء المسيح إلهًا وربًا (إش 9: 6)، يشير إلى يوحنا بأنه رسول خادم ومصباح يضيء قبل ظهور النور الحقيقي. هو كوكب الصبح الذي يعلن بزوغ الشمس من وراء الأفق، فتبدد أشعتها الساطعة سجف الظلام الحالكة. كان يوحنا صوتًا لا كلمة، يتقدم المسيح، كما يتقدم الصوت الكلمة.]
هذا الصوت يدوي في البرية لأنها قاحلة لا تحمل في داخلها شجرة الحياة كما في الفردوس الأول في عدن، غايته أن يُعلن عن السيد المسيح شجرة الحياة التي تغرس في برية طبيعتنا، ليقيم منها فردوسًا فائقًا بحلوله فيها. بهذا المعنى يقول
القديس أمبروسيوس في تعليقه على العبارة الإلهية: "
كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية" (لو 3: 2)، [قبل أن يقيم ابن الله أعضاء الكنيسة بدأ عمله في خادمه يوحنا، لهذا أظهر القديس لوقا كلمة الله حالاً على يوحنا بن زكريا في البرية... تحقق هذا في البرية الموحشة، لأن بني المستوحشة أكثر من التي لها أولاد (إش 54: 1)، وقد قيل لها:
"افرحي أيتها العاقر التي لم تلد
" (إش 54: 1)... إذ لم تكن بعد قد زرعت وسط الشعوب الغريبة... ولم يكن بعد قد جاء ذاك الذي قال:
"أما أنا فمثلزيتونة مخصبة في بيت الله
" (مز 52:
، ولم يكن قد وهب الكرام السماوي للأغصان ثمرًا (يو 15: 1). إذن فقد رنّ الصوت لكي تنتج البرية ثمارًا.]
بماذا كان ينادي هذا الصوت الصارخ؟
"أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة" [3]. يرى
الأب ثيوفلاكتيوس أن طريق الرب هو إنجيله أو العهد الجديد، أما سبله فهي النبوات التي تقودنا إليه، فكأن غاية يوحنا المعمدان أن نتقبل إنجيل الرب خلال الإدراك المستقيم لنبوات العهد القديم ورموزه.
كان هذا الصوت الذي يقودنا إلى السيد المسيح والتمتع بإنجيله هو صوت التوبة المعلن لا بكلمات يوحنا المعمدان فحسب وإنما حتى بلباسه وطعامه، فكانت حياته كلها صوتًا صارخًا يقود النفوس نحو المسيح. لذلك يقول الإنجيلي: "
كان يوحنا يعمد في البرية، ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم، وأعتمد جميعهم منه في نهر الأردن، معترفين بخطاياهم. وكان يكرز قائلاً: يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أنحني وأحل سيور حذائه. أنا أعمدكم بالماء وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس" [4-8].
ويلاحظ في هذا النص الآتي:
أ. كان موضوع كرازته هو "معمودية التوبة" للتمتع بغفران الخطايا. وقد حملت معموديته قوتها لا في ذاتها، وإنما في رمزها لمعمودية السيد المسيح، كما حملت الحية النحاسية في أيام موسى قوة الشفاء من أجل رمزها للصليب. هكذا كان القديس يوحنا المعمدان يعدّهم بمعموديته للتمتع بمعمودية السيد المسيح ويدفعهم إليها حتى ينعموا لا بغفران الخطية فحسب، وإنما بشركة الدفن مع السيد والقيامة، لتكون لهم الحياة الجديدة المقامة (رو 6: 4-5). وكما يقول
القديس جيروم: [كما كان هو سابقًا للمسيح، كانت معموديته تمهيدًا لمعمودية الرب.]
ويرى
القديس أمبروسيوس أن يوحنا المعمدان يمثل نهاية الناموس في دفعه الإنسان إلى التمتع بالمسيح وقيادة الكل إليه، وذلك كما تقود التوبة إلى نعمة السيد لنوال المغفرة، إذ يقول: [كانت الكلمة على يوحنا لينادي بالتوبة، من هنا كان يوحنا في نظر الكثيرين صورة للناموس الذي يكشف الخطية، لكنه يعجز عن غفرانها. من كان سائرًا في طريق الأمم يرده الناموس عن ضلاله، ويرجعه عن آثامه، ويدفعه إلى التوبة لنوال الغفران، إذ
"كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا
" (لو 16: 16). هكذا هيأ يوحنا طريق المسيح يسوع مبشرًا بالناموس، وذلك كما تعلن الكنيسة عن النعمة بالتوبة.]
ب. يرى
القديس جيروم في القديس يوحنا المعمدان صورة حية للحياة النسكية، فقد كانت أمه تقية، وأبوه كاهنًا ومع هذا لم تجتذبه عاطفة أمه ولا مركز أبيه، بل انطلق إلى البرية يطلب المسيح بعيني الإيمان رافضًا كل شيء سواه. وبقدر ما ترك القديس يوحنا العالم استطاع أن يسحب القلوب معه إلى البرية من العالم، سحب جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم خلال رائحة المسيح الفائقة التي فاحت فيه.
ترك القديس يوحنا ملذات المدينة ومباهجها، وانطلق إلى البرية يأكل العسل البري والجراد. وكأنه جذب للسيد المسيح شعوب الأمم الجافة روحيًا كعسل بري يحمل عذوبة في فم السيد، ويحول من اليهود الذين صاروا كالجراد الساقط بسبب عدم طاعتهم للوصية إلى طعام شهي! بمعنى آخر، إذ نرفض مع يوحنا طعام العالم المبهج نكسب حتى نفوس الآخرين طعامًا شهيًا للرب!
يرى
القديس أمبروسيوس في ملبس يوحنا المعمدان ومأكله كرازة نبوية عن عمل السيد المسيح، إذ يقول: [تنبأ بملبسه عن مجيء المسيح الذي حمل نجاسات أعمالنا النتنة (كمنطقة من جلد الحيوانات الميتة) وخطايا الأمم الحقيرة (كوبر الإبل)، طارحًا هذا اللباس الذي لأجسادنا على الصليب. وتشير المنطقة الجلدية إلى الجلد الذي كان ثقلاً على النفس لكنه تغير بمجيء المسيح... إذ شملنا قوة تلهبنا روحيًا فتمنطقنا بوصايا الله بروح ساهرة قوية وجسد مستعد متحرر. أما طعام يوحنا فحمل علامة على عمله وحوى سرًا... فصيد الجراد عمل باطل بلا نفع لا يصلح للطعام، والجراد ينتقل من موضع إلى آخر بصوت مزعج. هكذا كانت شعوب الأمم كالجراد، ليس لها عمل نافع، ولا نشاط مثمر، تتمتم أصواتًا بلا معنى ولا اتزان، وتجهل الحياة، صارت طعامًا للنبي، إذ تجمعت ونمت وازدادت في أفواه الأنبياء (خلال دخولهم إلى كنيسة العهد الجديد)... أما العسل البري فيصور لنا عذوبة الكنيسة التي جاءت من البرية، إذ لم تحصد أعمالها في حدود خلايا ناموس اليهود وإنما امتدت إلى الحقول ومواضع الغابة التي سبق فامتلأت بالظلال، كما هو مكتوب:
"سمعنا به في أفراثه، ووجدناه في موضع الغابة
" (مز 132: 6). كان يوحنا يأكل عسلاً بريًا إشارة إلى الشعوب التي تشبع من عسل الصخرة، كما هو مكتوب: "ومن الصخرة كنت أشبعك عسلاً
" (مز 81: 16).] هكذا شبعت الأمم من السيد المسيح الصخرة بعسل كلماته العذبة التي سجلها بالحب على الصليب، وبالقوة خلال قيامته المبهجة.
ج. في صراحة ووضوح أعلن القديس يوحنا المعمدان أنه ليس المسيح، معموديته غير معمودية السيد، وشخصه أقل من أن يقارن بشخص السيد. فمن جهة المعمودية يقول:
"أنا أعمدكم بماء، وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس". كانت معمودية يوحنا ظلاً أو رمزًا تمس غسلات الجسد، أما معمودية السيد المسيح فبحق تقدس الجسد والروح معًا، وكما يقول
القديس أمبروسيوس: [الماء والروح لا يفترقان، إذ اختلفت معمودية التوبة عن معمودية النعمة التي تشمل العنصرين معًا، أما الأولى فتخص عنصرًا واحدًا. إن كان الجسد والنفس يشتركان معًا في الخطية، فالتطهير واجب للاثنين.]
أما من جهة شخص السيد فيقول: "
يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أنحني وأحل سيور حذائه". يقول
القديس أمبروسيوس: [لم يقصد يوحنا بهذه المقارنة إثبات أن المسيح أعظم منه، فلا وجه للمقارنة بين ابن الله وإنسان. إذ يوجد أقوياء كثيرون، فإبليس قوي:
"لا يستطيع أحد أن يدخل بيت القويوينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولاً". (مر 3: 27)، لكن لا يوجد من هو أقوى من المسيح، دليل ذلك أن يوحنا لم يشأ أن يقارن نفسه بالمسيح بقوله:
"لست مستحقًا أن أحل سيور حذائه".]
د. يعلن القديس يوحنا أنه غير مستحق أن يمد يده ليحل سيور حذائه، وكما سبق فرأينا أن في هذا إشارة إلى إعلانه عن عجزه لإدراك سرّ تجسده، كيف صار كلمة الله إنساناً.على أي الأحوال لقد أحنى السيد المسيح رأسه تحت هذه اليد المتواضعة ليكمل كل برّ، وكما يقول
القديس يوحنا الذهبي الفم: [اليدّ التي أكد أنها غير مستحقة أن تمس حذائه سحبها المسيح على رأسه!]